التوقيف الإحتياطي …
للكاتب والباحث القانوني الأستاذ يوسف حنا الخوري
في كل مرة تُثار قضية إكتظاظ الموقوفين في السجون اللبنانية، وبخاصة غير المحكومين منهم، يبدأ البحث عن حلول، تتراوح بين العفو العام، وخفض السنة السجنية، والإخلاء الفوري لجميع الموقوفين أو على أساس الجرم ونوعه، والتسريع في المحاكمات… في حين أن الطرح الأساسي يقتضي أن يتجه إلى معالجة أسس التوقيف في حد ذاته. فمشكلة التوقيف الإحتياطي أنه أصبح القاعدة فيما إخلاء السبيل هو الاستثناء. والتدقيق في قرارات التوقيف يبيّن أن معظمها يندرج في إطار التوقيف الإحتياطي وتمديده بشكل مغاير لروحية قانون أصول المحاكمات الجزائية. فالتوقيف الإحتياطي ليس عقوبة بحد ذاته، بل توقيف مؤقت يهدف الى وضع المشتبه فيه بتصرف القضاء أو الحفاظ على سلامة التحقيق وسريته ضمن شروط وضوابط حدّدها القانون.
فما هي الأسس والضوابط القانونية التي تنظم هذا التوقيف؟ وهل هو مباح بشكل مطلق للقضاة؟
لفهم موضوع التوقيف الإحتياطي لابد أولاً من مقارنته مع التوقيف الإحترازي.
التوقيف الإحترازي يتخذ من قبل قضاة النيابة العامة بناءً على إشارة، المدة القصوى لا يمكن أن تتجاوز ٤٨ ساعة يمكن تمديدها لمدة مشابهة تحت معطيات معينة .أما التوقيف الإحتياطي يتخذ من قبل قضاة التحقيق بعد إستجواب المدعى عليه والمشتبه فيه بموجب قرار يسمى بمذكرة توقيف إما وجاهية إذا كان المدعى عليه حاضر أو غيابية إذا كان غير موجود أمام قاضي التحقي، طبعاً هناك شروط موضوعية لهذا التوقيف متعلقة بطبيعة الجريمة.
في حالة المخالفة أو الجنحة التي لا عقوبة حبس فيها، لا يمكن إتخاذ قرار بالتوقيف الإحتياطي. أما في حالة الجنحة التي عقوبتها لا تتجاوز سنة حبس، من حيث المبدأ لا يمكن التوقيف الإحتياطي ما لم يكن هناك سوابق جرمية للمدعى عليه . والجنحة التي عقوبتها بين سنة وسنتين، يمكن التوقيف كأحد أقصى لمدة ٥ أيام وبعد هذا التوقيف وضمن شروط محددة يجب إخلاء سبيل الموقوف حكماً (بحق) دون أي كفالة ضامنة.
ومن هذه الشروط أن يكون لبنانياً، لديه محل إقامة في لبنان وأن لا يكون محكوماً بجنحة شائنة أو بعقوبة حبس مدتها سنة على الأقل .أما كل جنحة تتجاوز عقوبتها السنتين حبس، فمهلة التوقيف شهرين كمهلة أصلية تمدد لشهرين ولا يمكن تجاوزها أكثر من ذلك وبعد إنتهاء ل ٤ أشهر يجب إخلاء سبيل الموقوف حكماً (بحكم القانون) .
وهناك مشكلة حول هذا الموضوع أضائت عليها محكمة التمييز الجزائية – الغرفة السادسة – برئاسة الرئيس القاضي جوزيف سماحة في العام 2016 حيث ميزت بين:
“إخلاء السبيل بحق الذي يرتبط بالمادة ١٣٨ من قانون أصول المحاكمات الجزائية اللبناني وإخلاء السبيل بحكم القانون وهو مرتبط بشروط موضوعية أي بطبيعة العقوبة”. (مثلاً: أمام جنحة عقوبتها سنتين وما فوق مدة التوقيف شهرين تمدد الى ٤ أشهر عند إنتهاء مدة التوقيف يجب بحكم القانون إطلاق سراح الموقوف دون كفالة).
أما بخصوص الجنايات، فهناك نوعين من الجنايات، جنايات عادية مدة التوقيف فيها ٦ أشهر قابلة للتمديد بمدة مماثلة لا يجوز تجاوزها عن سنة، وهناك جنايات خطرة كما سماها المشرع وهي جرائم القتل وتجارة المخدرات وجرائم الإرهاب وجرائم الخطر الشامل وقد ترك المشرع ثغرة لقضاة التحقيق لتقدير الجريمة ما إذا كانت خطرة أم لا وهنا مدة التوقيف غير محددة مفتوحة إلا ما لا نهاية.
هناك مسألة هامة جداً في نص قانون أصول المحاكمات الجزائية وهي ضرورة تعليل قرار التوقيف حسب نص المادة ١٠٧، مسألة ضرورية جداً لأن الأسباب الموجبة في قانون أصول المحاكمات الجزائية جائت لتجعل من مبدأ قرينة البراءة هو الأصل ومن حرية الفرد هي الأساس . ومن الإستثناء مهما كان نوعه (التوقيف).
وأكدت المادة ١٠٧ وحددت بحرفية النص … “يجب أن يكون قرار التوقيف معلالاً وأن يبين قاضي التحقيق الأسباب الواقعية والمادية التي إعتمدها لإصدار قراره على أن يكون التوقيف الإحتياطي الوسيلة الوحيدة للمحافظة على أدلة الجريمة وأثارها أو الحيلولة دون ممارسة الإكراه على الشهود أو المجني عليهم أو لمنعهم ومنع المدعى عليه من إجراء إتصال بشركائه أو المسهمين الأخرين في الجريمة أو أن يكون الغرض من التوقيف حماية المدعى عليه أو وضع حد لمعول الجريمة ” …
إن الشروط الموضوعية للتوقيف مهما كان نوعه لا تكفي لوحدها لإتخاذ قرار التوقيف لأن هذا القرار يتعلق بأسمى ما يتمتع به الشخص وهو الحرية، الحرية إذا فقدت فقد ما سواها لأنها هي الكل .إذاً الشروط الموضوعية لا تكفي لوحدها، إذ هناك شروط شكلية أصر عليها المشرع بنصوص آمرة واضحة صريحة لا يمكن التفلت من عقابها حيث إبتداء المادة بعبارة “يجب” وهي قاعدة آمرة .
نستنتج من ذلك أن المشرع أراد من خلال هذه المادة الحد من التوقيف الإحتياطي قدر الإمكان بدليل، على أن يكون التوقيف الوسيلة الوحيدة (لمنع الفرار أو بالإتصال بالشهود …).
لننهي مقالتنا، بقول يعتبر من أهم الأقوال التي تبين خطورة التمادي في التوقيف الإحتياطي، وهو لأحد القضاة الذي كان يمثل النيابة العامة في إحدى محاكم الجنايات عندما وصل المتهم وبعد فترة طويلة من توقيفه إحتياطياً وطلب له البراءة :
“بإسم الشعب الذي أمثل بإسم القانون اللبناني الذي أنطق بإسمه أنحني أمامك خجلاً لأننا ظلمناك وأوقفناك إحتياطياً على الشبهة ولأن فترة توقيفك الإحتياطي طالت فدخلت السجن أسود الشعر ووصلت إلى قفص الإتهام أبيضه ولا أستطيع أن أعوض عليك إلا بموقفٍ يفرضه القانون والضمير والعدالة فأطلب من المحكمة إعلان برائتك وذلك لعدم الدليل وإطلاق سراحك الأن وليس غداً”.