دياب لن يقبل برفع الدعم
وليتحمل المعنيون بتشكيل الحكومة مسؤولياتهم؟
الخبير المالي والاقتصادي أحمد بهجة
مع إطلالة العام الجديد نأمل أن يحمل معه بعض الإيجابيات التي تجعل اللبنانيين يلتقطون أنفاسهم قليلاً، بعدما تراكمت عليهم الأزمات والمشاكل على مدى أيام العام الذي مضى غير مأسوف عليه، رغم أنّ تلك الأزمات والمشاكل ليست في معظمها من نتاج العام 2020، إنما وصلت الأمور في العام المذكور إلى الذروة.
وفي هذا السياق يعرف الجميع أنّ الأزمة الاقتصادية والمالية ليست وليدة عام واحد إنما هي متراكمة منذ سنين طويلة، منها ما يعود إلى ما قبل الحرب الداخلية المشؤومة بين اللبنانيين، ومنها بل أكثرها سببه السياسات الاقتصادية والمالية والنقدية الخاطئة التي اتبعت بعد انتهاء تلك الحرب، وتحديداً منذ 1992، حيث تمّ القضاء تدريجياً على قطاعات الاقتصاد الحقيقي، أيّ القطاعات الإنتاجية، لمصلحة الاقتصاد الوهمي، أيّ الريع والفوائد والمضاربات المالية والعقارية.
لقد حاول بعض أصحاب الرؤية البعيدة النظر تصحيح المسار الخاطئ في حينه، لكنهم كانوا أقلية في مواجهة أكثرية طامعة بالاستفادة من فساد سياسات الريع وصفقاتها المشبوهة وفوائدها العالية جداً والغير مبنية على أيّ أساس علمي أو اقتصادي، ولعلّ أبرز دليل على ذلك ظهر واضحاً خلال الجلسة النيابية العامة سنة 1997 والتي تمّ خلالها السماح للحكومة بالاستدانة بالعملات الأجنبية، وهي جلسة موثقة بالصوت والصورة، حيث ارتفعت أصوات عدد غير قليل من النواب الذين عارضوا ذلك الإجراء وحذروا من أنّ اعتماده سيوصل البلد إلى الكارثة، التي نعيش في خضمّها اليوم، لأنّ الأكثرية يومها أصرّت على أنّ الأمر هو مجرّد إعادة هيكلة للدين العام متجاهلة أنه دَيْن جديد يُضاف إلى الدين الداخلي الذي ازدادت أرقامه بشكل كبير جداً نتيجة الفوائد الجنونية على سندات الخزينة والتي وصلت إلى نحو 45 في المئة عام 1995.
ورغم انكشاف عقم تلك السياسات استمرّ القيّمون عليها بارتكاب الأخطاء بل الخطايا نفسها، حيث أتت مؤتمرات باريس 1 و 2 و 3 لتزيد الطين بلة، ولتعطي اقتصاد الريع المزيد من الأوكسجين من دون القيام بأيّ خطوة تصحيحية، حيث كان الحديث عن تعزيز قطاعات الإنتاج مجرّد شعارات وبروباغندا إعلامية هدفها التعمية على الفساد والهدر والصفقات التي كانت تتمّ أحياناً تحت الطاولة وأحياناً أخرى “على عينك يا تاجر” كما يُقال.
وإذا كانت تحويلات المغتربين وعائدات القطاع السياحي سمحت بتأخير الكارثة بعض الوقت، فإنّ العام 2011 كان نقطة بداية الانهيار، حيث بدأ ميزان المدفوعات يسجل عجزاً متواصلاً مستمراً إلى اليوم، باستثناء العام 2016 الذي شهد ما سُمّيَ “الهندسات المالية” السيئة الذكر، والتي استنزفت أكثر من ثمانية مليارات دولار من المال العام فقط من أجل التغطية على خسائر تكبّدها عدد من المصارف، وأيضاً من أجل تمكين مصرف لبنان من الاستمرار في سياسة الريع نفسها دون تغيير أيّ فاصلة أو نقطة في تلك السياسة الهدامة.
أما الأموال بالعملات الأجنبية التي استقطبها مصرف لبنان من المصارف مقابل فوائد عالية جداً، ومعها تسهيلات وقروض بمليارات الليرات بفوائد متدنية جداً ولآجال طويلة، فقد سمحت بإطالة عمر سياسات الريع نحو ثلاث سنوات لا أكثر، إذ مع حلول العام 2019 انكشف الأمر، على الأقلّ أمام أصحاب المصارف وبعض أصحابهم وحماتهم من السياسيين الذين بدأوا بتهريب أمواله إلى الخارج، ما أدّى إلى بدء المصارف في صيف العام 2019 بالتضييق على المودِعين الذين يريدون التصرف بودائعهم بالعملات الأجنبية، وأدّى ذلك مع أسباب وجيهة أخرى إلى التحرّك الشعبي العارم في 17 تشرين الأول 2019، والذي أعقبه إقفال المصارف بشكل متعمّد لأكثر من أسبوعين قام خلالها أصحاب المصارف ومعهم سياسيون كبار ووزراء ونواب ومسؤولون في صروح دينية معروفة بتهريب مليارات إضافية من الدولارات إلى الخارج، وهو أمر يقول معنيون بالقطاع المصرفي إنه استمرّ عام 2020، حيث يقدّر بعض العارفين قيمة ما تمّ تهريبه في العامين الماضيين بنحو ثلاثين مليار دولار.
أدّى ذلك بطبيعة الحال إلى إضعاف قدرة الخزينة العامة، فلم يعد بإمكانها الدفاع عن العملة المحلية أمام العملات الأجنبية التي ارتفع سعر صرفها إلى مستويات عالية، ما أدّى تلقائياً إلى ارتفاع أسعار السلع المستوردة، علماً أنّ القضاء على قطاعات الإنتاج كما أسلفنا أوصل حجم الاستيراد إلى نحو عشرين مليار دولار فيما انخفض حجم الصادرات إلى نحو ثلاثة مليارات دولار فقط.
مع هذه الأزمة الخانقة أتت جائحة كورونا لتزيد الأمور تعقيداً، ثمّ أتى الانفجار الكارثي في مرفأ بيروت لتتجمّع كلّ هذه الويلات والمصائب فوق رؤوس اللبنانيين الذين بات أكثر من نصفهم تحت خط الفقر وفق تقديرات البنك الدولي.
إزاء ذلك كان لا بدّ من اعتماد سياسة دعم استيراد المواد الأساسية (القمح والأدوية والمحروقات) إضافة إلى عدد من السلع التي لا غنى عنها في الحياة اليومية للمواطنين. لكن مصرف لبنان وحاكمه رياض سلامة لم يتعاون مطلقاً مع الحكومة ورئيسها الدكتور حسان دياب، لا في ما يتعلق بالدعم ولا قبل ذلك في الخطة المالية التي وضعتها الحكومة وكانت أساس المفاوضات مع صندوق النقد الدولي، وهي الخطة المترافقة مع إصلاحات كبيرة مطلوبة، ومعها أيضاً خطة اقتصادية واجتماعية من شأن تنفيذها تدريجياً إعادة الروح إلى القطاعات الإنتاجية.
ومع أنّ مصرف لبنان ملزم بتنفيذ ما تقرّره السلطة التنفيذية، فقد أدّى عدم تعاونه مع الحكومة ورئيسها إلى المزيد من استنزاف المالية العامة التي لا أرقام واضحة بشأنها حتى الآن، فمرة يقول الحاكم في مقابلة تلفزيونية إنّ قيمة الاحتياطي الإلزامي هي 17.5 مليار دولار، وما يزيد عنها لا يتجاوز الـ 800 مليون دولار، ثم بعد أيام قليلة يقول في مقابلة تلفزيونية أخرى إنّ لديه ملياري دولار غير الاحتياطي الإلزامي…!
المهمّ أنّ رئيس الحكومة الدكتور حسان دياب يرفض وقف الدعم، ولن يسمح بهذا الأمر إطلاقاً، أما المطروح فهو ترشيد الدعم وجعله يصل إلى المحتاجين إليه فعلاً، وقطع الطريق على الذين يريدون تحويل هذا الدعم إلى مصدر جديد لصفقاتهم وفسادهم.
وهذا هو مضمون السيناريوات الأربعة التي أعدّتها الحكومة وأحالتها إلى المجلس النيابي، حيث يُنتظر أن يضعها رئيس المجلس نبيه بري أمام اللجان النيابية بعد عطلة الأعياد لكي تدرسها وتقرّ منها السيناريو الذي تراه مناسباً، ومن ثم يُحال ما اتفق عليه إلى الهيئة العامة لتقرّه ويصبح بعدها ساري المفعول بعد توقيع رئيس الجمهورية. وهكذا يكون الجميع قد تحمّلوا مسؤولياتهم، ووضعوا الأمور في نصابها، لا كما يفعل المعنيون بتشكيل الحكومة إذ يماطلون ويؤجّلون لأنهم لا يريدون تحمّل مسؤولياتهم، بل يريدون من غيرهم أن يحمل عنهم كرة النار ويتخذ قرار رفع الدعم، وهذا ما لن يحصل لا اليوم ولا غداً…
خبير مالي واقتصادي