حين يتنفّس القلب رماد الذاكرة
بقلم: فاطمة يوسف بصل
الذكريات ليست ظلًّا نلجأ إليه حين تظلم الأيام، بل جمرٌ ناعمٌ يتوهّج في أعماق القلب، لا يحرقنا تمامًا، ولا يتركنا سالمين. تسكننا كأنفاسٍ معلّقة بين زمنين؛ زمنٍ مضى ولم يمت، وزمنٍ نعيشه ولا يكتمل.
إنها حرائق صغيرة باردة الملمس، تتسلّل إلى الروح بلا استئذان، فتُشعل فينا حنينًا لا يُقال. لا صوت لها، لكنها تصرخ فينا بلغاتٍ لا تُفهم إلا بالقلب. تأتي بلا موعد، كحبيبٍ غادر دون وداع، أو كهمسة أمٍّ اشتاقت لطفلٍ غاب عن حضنها طويلاً.
الذكريات نوافذ خفيّة تفتحها الروح حين يختنق الحاضر. نطلّ منها على مشاهد من العمر مرّت كالعطر، وما زالت تعبق فينا رغم الغياب. هي متحف المشاعر الذي نخبّئ فيه ما تبقّى من أنفسنا، حين لم يعد العالم يتّسع لصدقنا.
أحيانًا، نمرّ بمكانٍ ضحكنا فيه ذات يوم، فنشعر أن الأرض تتنهّد تحت أقدامنا.
وأحيانًا، يوقظنا لحنٌ عابر فيعيد إلينا وجوهًا، وأحلامًا، ودموعًا كنّا نظنّها طُمرت في الذاكرة.
كم من صورةٍ علّقناها على جدارٍ ثم نسيناها، لكنها ما زالت تنظر إلينا من خلف الزجاج، تذكّرنا بلحظةٍ كان فيها القلب حيًّا، والوقت بريئًا؟
الذكريات ليست حنينًا فقط، بل دليل حياة. هي الأرواح الصغيرة للحظاتٍ ظننّاها انتهت. فذكرى والدٍ ينتظر على عتبة البيت، أقوى من ألف خطابٍ عن الوفاء. وذكرى معلمةٍ ربتت على كتف تلميذٍ خائف، قد تخلّد في قلبه أكثر من سنوات التعليم كلّها.
إنها الأثر الذي يتركه الزمن حين يمرّ فينا. نحملها في نظرة، في رعشة، في تنهيدةٍ لا نعرف سببها. ليست للضعفاء، بل للأحياء الذين ذاقوا الفقد ونجوا. فكل من أحبّ، وخسر، وعاد، يحمل في داخله جمرةً لا تنطفئ، جمرةً اسمها: “أنا عشت”.
فاحفظوا ذكرياتكم، لا كجراحٍ مفتوحة، بل كأوسمةٍ على صدر العمر.
لأن من لا ذاكرة له، لا ملامح له،
ومن لا يحترق بالذكريات… لن يتعلّم كيف يضيء.

